الجمعة, أبريل 19, 2024

حسين جمو: التسوية المخفيّة

آراء
من الناحية التقنية، المسافة بين الإدارة الذاتية والنظام السوري أقرب مما هي بينهما وبين مجموعات المعارضة، المفككة، والعاملة لحسابات الأمن القومي التركي.

في جولات الحوار السابقة، بين ممثلين عن الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية (اختصاراً نقول شرق الفرات) وممثلين عن دمشق، كان هناك حديث متكرر عن “تقدم بطيء” واستمرار جولات الحوار. ممثلو شرق الفرات بدا وكأنهم الأكثر تقبلاً لفكرة إنهاء حالة الجمود بين الطرفين باتفاق نهائي، يحفظ مكاسب هذه المنطقة من الناحية العسكرية (قوات سوريا الديمقراطية) ومن الناحية الإدارية (الإدارة الذاتية).

الواقع أن رؤية النظام لمسألة التوافق السوري بين دمشق وشرق الفرات، شهدت على مدار السنوات الماضية، مساراً تصاعدياً. فكلما حققت قوات النظام انتصاراً على المعارضة وداعميها، تخرج بتصريحات حادة، وصلت إلى درجة حديث الرئيس السوري بشار الأسد عن “أصالة” و”عدم أصالة” بعض الكرد في سوريا، رغم معرفته الجيدة أن فتح مثل هذه الأمور قد تثير ردّة فعل تستهدف “أصالة” منبت عائلة الأسد نفسه. اعتبار مواطنين سوريين ضيوفاً خرجوا عن آداب الضيافة ليس تصريحاً سياسياً عابراً. ففي الحالة السورية، والتنوع المجتمعي، والانقسامات السياسية والعسكرية، مثل هذا التصريح مغامرة كبيرة، قد تفتح الباب أمام مستوى شعبوي من المزاعم عن أصالة هذا المكون وعدم أصالة ذاك. ومعروفٌ أن لا أحد مصون من مثل هذه الموجة من الشكوك المسيّسة إنْ بدأت. لكن، الطرف المقابل، المستهدف من هذه التصريحات، لم يرد بالمثل، رغم توفر مادة غنية تخدم الغرض.

رغم الجوانب الخطيرة لمثل هذا اختار رأس النظام أن يبادر هو بنفسه إلى هذه المغامرة الخطرة على السلم الأهلي مستقبلاً. فهو جعل من نتائج دراسات موجّهة من قبل داعمي المعارضة (خصوصاً قطر – تركيا)، طليعة رؤيته تجاه الكرد (أٌقلية في الجزيرة، محتلون، ضيوف، عملاء الأمريكان).

هل كان الأسد غير مدرك أنه قد انضم إلى مسار يقوده هواة مدفوعون بالعجز عن التعايش، أشخاص ما زالوا يقيمون اعتباراً للسيادة القومية، أولئك العالقين في التاريخ بعقلية أن كل من ليس عربياً إنما هو من الموالي؟.

إن المقابلة الصحفية التي جرت في شهر آذار/ مارس الماضي، جاءت بعد أسابيع من تحقيق النظام انتصاراً كبيراً في معارك إدلب، بدعم من روسيا. لم يشغل هذا التصريح حيزاً في التحليل، خصوصاً أن وقائع جائحة “كورونا” باتت تتصدر العالم، غير أن ما بعد جائحة “كورونا” ستظهر تطبيقات هذا التوجه الإقصائي الصريح للكرد من الدولة السورية.

ليس من المتوقع أن يكون النظام متطلعاً لأي حوار مع ممثلي شرق الفرات، وليس مستعداً لأي تسوية سياسية، بل إنه معني بتخريب أي بوادر تفاهم بين لجان فنية وسياسية مشكلة من الطرفين، في حال لم تكن لديه النية لبناء مضمون جديد للدولة، أكثر تعددية وأقل مركزية. لا مؤشرات مشجعة على شيء من هذا القبيل، لذا لا يبقى سوى السيناريو الإقصائي المتشعب، والجانب الوحيد الخاضع للتحديث والتطوير – أي الإقصاء – بناء على تراكم دستوري منحرف بدءاً من عام 1950، تاريخ الدستور الذي كان يسميه المعارضون بالديمقراطي، وهو الدستور الأول الذي أسس لإنهاء ملامح الدولة الوطنية وتحويلها إلى “قُطر عربي”.

 إذاً، نحن، وفق هذه القراءة، أمام محاولة لتفسير إقدام النظام، في كل مرة، لقطع الطريق أمام أي حوار، لإعادة منطقة شرق الفرات إلى كيان الدولة المركزية، بصيغة حكم غير مركزية. المسألة لا تتعلق بأيديولوجية النظام القومية، أو أي أسلوب تحايلي آخر يُستخدم للاستمرار في الحكم، إنما في مضمون تسوية لم يتم الإعلان عنها بعد، مادتها الكرد، وطرفاها النظام والمعارضة، وداعميهما الإقليميين.

 بعد مسيرة أكثر من /9/ سنوات من العمل السياسي للمعارضة، تقلّص خطابها من موضوع واحد رئيسي هو إسقاط النظام، إلى تنوع في المحاور، تحت تأثير تركيا، ليحوز خطاب الكراهية ضد الكرد (تحت ذريعة إعلانية وهي قوات سوريا الديمقراطية أو حزب العمال الكردستاني) مقدمة الأجندة السياسية والعسكرية لدى سياسيي وعسكريي هذه المعارضة، منذ التدخل التركي المباشر عام 2016. قبل ذلك كان هذا الخطاب يعتبر فردياً أو على الأقل ليست أولوية. هذا التقدم الذي أحرزه الهاجس الكردي في خطاب المعارضة، لم يأتِ بإيعاز أمني من تركيا فحسب، بل إن هذه المعارضة حين انشقّت عن النظام، أي الجزء المنشق تحديداً، فإن الخطاب المعادي للتنوع، الذي كان يستخدمه النظام فيما سبق، قبل 2011، قد جلبته معها المعارضة حين انشقت عن النظام وأعادت تجميع نفسها مع المعارضة القائمة قبل انشقاقهم. ميراث الخطاب القائم على الكراهية و”سيادة العنصر العربي” العائدة لحقبة العرب والموالي، قد انتقلت من جانب النظام إلى المعارض بنسخة أكثر عنصرية ووقاحة، بدون حتى أي محاولة للتثاقف في قول ما يريدون. النظام سكت عن هذا الانشقاق الخطابي عنه، أي العنصرية، واستخدم ذلك في فترة العزلة الكبيرة بين عامي 2011 – 2015 كأفضلية له على المعارضة، فكان أكثر انفتاحاً على الكرد وعلى مظاهر التنوع الاجتماعي في سوريا، بينما كانت المعارضة، بكافة تنويعاتها، تنغلق أكثر فأكثر، لدرجة باتت القضية الكردية أمراً يخص المعارضة وليس النظام. الأخير سمح بذلك أيضاً والسعادة تغمره.

 على الأرجح، أنه منذ العام 2018، هناك تنسيق ما عبر روسيا أو إيران، بين النظامين السوري والتركي، من أجل قلب أولويات المعارضة رأساً على عقب، أي أن يكون الكرد والقضية الكردية على رأس أجندة المعارضة، بتشكيلاتها العسكرية والسياسية والإعلامية والحقوقية، وهو ما أحرز تقدماً كبيراً خلال عمليات تركيا الاحتلالية في عفرين وسري كانيه/ رأس العين وتل أبيض. وفي كل من المرتين، كان خطاب النظام السوري في وكالة “سانا”، للكرد، يتحول إلى ما يمكن اختصاره بمقولة :”لأنكم لم تقبلوا سيادة الدولة، وبعتم أنفسكم للأمريكي، فإنكم تستحقون الاحتلال التركي”. لم يخرج خطاب النظام عما تعبر عنه الصيغة السابقة. ولأسباب نفسية بالدرجة الأولى للدائرة الضيقة الحاكمة، فإن الأولوية ليست لإصلاح سوريا، بل إعادة المعارضة، كأفراد مهزومين تائبين، إلى تركيبة النظام، وذلك لن يتم سوى عبر استعادة النظام خطاب الكراهية المتدني، الشعبوي، البعثي العراقي، ضد الكرد وكل ما يمثلونه.

 وفق هذه العقلية، المرحلة القادمة هي محاولة الهجوم الشامل على شرق الفرات، بدون أي توتر ميداني مسبق، وسيسبق ذلك إنهاء وجود المعارضة في إدلب، وقد يصل الأمر إلى التشارك بين النظام ومجموعات المعارضة التابعة لتركيا في المناطق المحتلة. قد لا يحدث ذلك حرفياً، إلا أن ما يجري حتى الآن هو أن نقطة الالتقاء الوحيدة بين النظام والمعارضة، بهندسة مسبقة من تركيا، هو ضرورة توجيه الحرب ضد الكرد تحت أي مسمى كان (تبدو كلمة الانفصاليين هي الأقرب للإجماع).

 بالتأكيد هذه النقطة هي الأنسب للنظام لإعادة تلزيق المجتمع المهشّم بفعل الحرب. الملف الكردي نقطة التقاء وحيدة بين المنتصر والمهزوم، لأنه ليس منطقياً للنظام أن تكون نقطة الالتقاء الجامعة لسوريا الممزقة، الحكم وفق الشريعة الإسلامية.

نورث برس

شارك هذا الموضوع على

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *